كيف بلغ العباس (عليه السلام) هذا المقام
هل العبّاس (عليه السلام) وصل إلـى هـذا المقام بعمله فقط أم بمؤهلات أخرى؟
لاشكّ أنّ عمل العبّاس (عليه السلام) هو فـي القمّة العالية ، إلاّ أن جوهره كان أعلى شأناً لأنّه الأساس فـي عمله أيضاً . ففضل الذهب على التراب ليس بالكميّة أو الوزن بل في الجوهر .
فلا يقال : إذا خلق الله الجوهر أفضل فلماذا يثاب ؟
لأنّه يقال : خلق الله كلّ ممكن لا محذور فيه سواء في الآفاق أو في الأنفس ، وكلّ شيء له مناسب واستحقاق ذاتي أو جعلي ، والثواب من هذا القبيل .
فلا يقال: للجوهر الأَدون أن يعترض إنّه إذا خُلِقتُ أفضل كان لي الاستحقاق نفسه .
لأنّهُ يقال : اعتراضه غير وارد ، وإلاّ يلـزم أن لا يعطـي الله كلّ ممكن خلقه ، أو يلزم الظلم ، فإنّ الله إذا لم يخلق الأَدون ، لزم الشقّ الأوّل، وإذا خلق وأعطاه ما للأعلى، لزم وضع الشيء في غير موضعه، وهو خلاف الحكمة . يبقى الشقّ الثالث ؛ وهـو أن يعطي كلّ شيء خلقه ، ثمّ يثيبه بقدر استحقاقه لا أكثر إلاّ بفضله .
فإنّ الفضل يعطى لغير مـن تقتضي الحكمة عدم الفضل لـه بينما الاستحقاق يعطى للمستحقّ فقط ، كما بُرهن في علم الكلام .
وعلى أيّ حـالٍ ، فهناك عدم الحرام وعـدم المكروه وعدم ترك المستحب وعدم ترك الأولى وعدم السكوت عن الاعتذار عن نواقص الإمكان ، والمعصومون الأربعة عشر كانوا متّصفين بكلّ ذلك .
أمّا مثل العبّاس (عليه السلام) وعليّ الأكبر (عليه السلام) ـ حيث قرأ الإمام الحسين (عليه السلام): (إنَّ الله اصطفَى آدَم ونوُحاً وءال إبراهيمَ وءال عِمرانَ على العالمين ذَرّيةً بعَضُها مِن بَعضٍ)(1)، دلالة علـى أنّ عليّ الأكبر (عليه السلام) من تلك الشجرة ـ. فجوهر علي الأكبر ليس كجوهر المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فهم كما قالوا: (نزِّلونا…)(2) نقول بالنسبة إلى العبّاس ونحوه (عليهم السلام) نزّلوهم عن العصمة الكبرى ...
العبّاس باب الحوائج
مدلول لفظة «باب الحوائج» ربّمـا يكون حالة نفسية يتحلّى بها الشخص الموسوم بهذه الصفـة. فبعض الأنفس حسب الخلقة تناسب شيئاً ، بينما الأنفس الأخـرى لا تناسب ذلك الشـيء ، كالصفات الظاهـرة من الجمال والفصاحـة والحساسية ، والصفـات الباطنة كالشجاعـة والكرم والسماحة ، بينما البعض الآخر لها أضداد تلك الصفات كالقبح والسفاهة والبلادة والجبـن والبخل والتعصّب . فإنّ لكلّ صفة عرضاً عريضاً ، حتّى إنّ حسّان بن ثابت كان يخاف حتّى من لمس الميّت فكيف بالخروج إلـى الحـرب وشهـر السلاح بوجه الأعداء(3).
وقد قال الإمام علي (عليه السلام) : (والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها) (4) ، والعـرب هنا كناية عن شجعان الدنيا، وإنّما جاء بهذه اللفظة ، لأنّ العرب في ذلك اليوم كانوا مظهر الشجاعة .
والأنفس كالأودية حيث نجد في الآية الكريمة : )أَنزَلَ مِن السَّماءِ ماءً فَسالَت أودِيَة بِقَدَرِها …)(5)، وهكذا هي الأنفس البشرية مثلها مثل الأودية .
ولعل الآية الكريـمة جاءت علـى ذكر ذلك من باب المثال لكلّ مخلوق منه سبحانه ، فإنّه قـد ينـزّل المعقول بمنـزلة المحسوس ، أو بالعكس ، أو المحسوس بعضه بمنـزلة بعض آخر، وهكذا المعقولات، قال تعالى : (كسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمئان ماءً)(6)، وقال أيضاً : (كَرَمادٍ اشتَدَّت بهِ الرِّيحُ …)(7)، ويمكن أن يكون لعمل استحقّ به ذلك عرضاً ، مثل مواساته أخاه فـي العطش بعد أن لـم يكن على شربه يلومه العقل أو الشرع أو العرف .
لا يقال : إنّ الله غير محتاج إلـى الواسطة بل هو أقرب من حبل الوريد، ويحول بين المرء وقلبه .
لأنّه يقال : الأمـر كذلك لكنّ الله سبحانه خلـق الكـون بهذه الكيفية ؛ لأنّه ممكن يتطلب الوجود ـ كمـا قـال الحكماء في كلّ موجودات الكون ـ .
وعلى أيّ حال فهو (عليه السلام) يقضي حوائج المحتاجين لكن الأمر بحسب المقرّر من وجود المقتضي وعدم المانع (
.
كرامات العباس عليه السلام
كان طالب علم يدرس العلوم الدينية فـي كربـلاء اسمه الشيخ إبراهيم ، وكان هذا الشيخ بحاجة إلى الزواج ، وكان عليه دَينٌ أيضاً ، وكان أيضاً يريد الحج ولا يتمكّن من ذلك .
فجاء إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) طالباً حوائجه ثمّ ذهب إلى حرم العبـّاس (عليه السلام) ، وكان كلّ يوم يأتي إلـى الحرمين ويطلب حاجته وبإلحاح متواصل ومستمر . واستمر على ذلك ستة أشهر ، وفي اليوم الآخر رأى امرأة من أهل البادية تحمل طفلاً مصاباً بمرض «الكزاز» وبلغ تقوّس ظهره أن تدلى رأسه إلى الخلف ، وهذا القسم لا يعالج في الطب ، وبعد أن يئس أهله من الشفاء جاءوا به إلـى حرم العبّاس (عليه السلام)، وضعته المرأة ـ ولعلّها كانت أمّه ـ أمام ضريح العبّاس تطلب منه الشفاء العاجل ، وإذا بالطفل يغفو من إغمائه ويقف على رجله كلّ هـذا والشيخ ينظر إليه ، ويرى كيف تقبّل الله سَعيَ هذه المرأة وكيف توسط العبّاس (عليه السلام) في شفائه .
وهنـا هاج الشيخ وسيطر عليه الحـزن والألـم وأخذ يخاطب العبّاس (عليه السلام) بلهجة لا تناسب مقامه وبلغة عامية :
الحسين إمام وأنت أخـو الإمام ، وبيدك كـلّ شيء لكنّكما لا تنفعان إلاّ أقرباءكما العـرب ، ثمّ ودّع الحضرة الشريفة وذهب إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ، وقال له : أنت إمام والعبّاس أخو الإمام وبيدكما كلّ شيء ولكنّكما لا تنفعان إلاّ أقرباءكما العرب. ثمّ خرج وقرر أن يذهب إلـى النجف الأشرف ليخاطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمنطق نفسه ثمّ ليعود إلى أهله وقريته في إيران .
عـزم الرجل على الذهاب إلـى النجف الأشرف ، ولما وصل إلى الصحن الشريف جلس ليستريح، فإذا به يرى شخصاً يأتيه ويقول له: يا شيخ إبراهيم إنّـي خادم الشيخ مرتضى الأنصاري جئتك لأبلغك رسالة الشيخ ، وأنّه ينتظرك في بيته .
تعجب الشيخ إبراهيم من كلام هـذا الرسول لأنه لـم ير الشيخ الأنصاري من قبل ، واشتـدّ تعجّبه عـن كيفية علم الشيخ به وأنّه موجود في إيوان الصحن المطهّر .
قام وذهب إلـى دار الشيخ ، فاحترمه الشيخ الأنصاري وأعطاه ثلاث صرر قائلاً له :
هذه الصرّة لحجّك وهذه لزواجك وهـذه لأداء دينك ، فتعجب من معرفة الشيخ بحوائجه وازداد عجبـه من عتب الشيخ عليه لأنه خاطب العبّاس بذلك الخطاب قائلاً له : هناك فرقٌ بينك وبين ذلك الذي شافاه العبّاس فـي الحال فأنت رجـلٌ عالم عارف وتلك امرأة قرويّة ، فإنّ الله إذا لـم يعطها حاجتها كفـرت ، وأمّا أنت فلست كذلك .
رجع الشيخ إلى كربلاء المقدّسة وغيّر رأيه في أمر العودة إلى إيران. وفتح الصرر الثلاث فإذا في كلّ صرّة بقدر كفاية الحاجة التي كانت له .
وهكـذا فالعبّـاس (عليه السلام) هـو باب الحوائج بأمر من الله سبحانه وتعالى(9).
الرأس الشريف
أورد المؤرخون أنّهم رأوا رأس العبّاس معلّقاً فـي عنق فرس أحد القتلة في الكوفة ، وبعد ذلك ماذا حدث للرأس الشريف ؟
كما أنّ المؤرخين اختلفوا فـي رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ، هل هو ملحق بالجسد أو عند قبر الإمام علـيّ (عليه السلام) ، أو في منطقة الحنانة أو غير ذلك . كذلك اختلفوا في مكان دفن رأس العبّاس (عليه السلام) .
فهناك قولٌ أنه مدفون مع رؤوس الشهداء فـي الشام(10)، والرواية هكذا : قبل مائة سنة وفـي أيّام سدانة السيد رشيد ، أصاب خراب المشهد ، فأتـى السيّد رشيد بمعمارٍ مسيحي لغـرض ترميم المشهد المقدّس ، وأخذ المعمّار فـي أعمال الترميم ، وذات يـوم أرسل إلى المتولّي بلاغاً يعلمه عن تركه العمل قائلاً : إن عملي هذا يهدم ديني ، فسأله المتولّي عن السبب ؛ قال له : تعال معي لأريك أمراً عجيباً .
أخذ بيد المتولّي وجاء به إلـى السرداب الذي فيه الرؤوس ، فنظر المتولّي فإذا به يـرى الرؤوس وبينها رأس العبّاس (عليه السلام) فـي طراوية وكأنّها قطعت عن أبدانها الساعة . فعلّق المعمار على مشاهدته : إذا كان ما نـراه حقّاً فديننا ـ يعـني المسيحية ـ باطل ، ولهذا تركت الترميم خوفاً على ديني .
أقـول : إذا كان المعمار المسيحـي قـد أدرك أنّ أصحاب هذه الرؤوس هم من أولياء الله ، حيث شاهد بعينه المعجزة الإلهية في عباده الصالحين الذين لم تتغيّر أجسادهم بعد أكثر من ألف عام : (قُل فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالغَةُ)(11)، وعرف أنّ ديـن الإسلام هـو الديـن الصحيح وأنّ لهؤلاء الأولياء كرامة عند الله سبحانه فما بالنا نحن المسلمون .
وهـذه القصّة متواترة ورؤية السيّد رشيد مشهورة ممّا يـدلّ على تماميّة وأحقيّة حتّى جزئيّات حادثة كربلاء الفجيعة .
إلاّ أنّ الكلام في أنّه هل رأى في تلك الرؤوس المشرفة رأس سيّدنا العبّاس (عليه السلام) أم لا ؟(12) والرأس لم يكن محنطاً كالمومياء حتّى يصبح الأمر عادياً بل هـو أمرٌ إعجازيٌّ خارق للعادة . وهذه دلالة علـى ما لهذا السيّد الجليل ـ العبّاس ـ من كرامة عظيمة عند الله ، وبالتالي ما لزيارة الرأس الشريف بقصد القربة والرجاء من آثار كبيرة ونتائج محمودة بالرغم من أنّه لـم نجد نصاً من المعصومين (عليهم السلام) في ذلك ، ولاشكّ أنّ المَلَكَ يوصـل الزيارة إليه (عليه السلام) وهـو في قبره في كربلاء (13).
وكيف لا يكـون العباس (عليه السلام) صاحب كرامـة وهـو ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ومن باب الاستطراد نذكر كرامتين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على وجه الاختصار .
كان لوالدي (قدس سره) صديق هو الشيخ محمّد حسن الهرسيني ، وقد قَدِمَ إلى النجف الأشرف لغرض الدراسة في أيّام السيّد أبو الحسن الأصفهانـي (قدس سره) ، وذهب صديقـه الآخـر الشيخ فرج الله الكاظمي (رحمه الله) إلـى كربلاء ، قال الكاظمي : كنت أعمل عمل البنّائين ، أعمل فـي الأسبوع يوماً واحداً لأحصل على معاشي الذي يكفيني طيلة الأسبوع .
أمّا الشيخ محمّد حسن الهرسيني قال : فـي سنة لم يأت من بلدي شيء من المال لأعيش به حتّى عزمت على الرجوع إلـى بلدي حيث نفد كلّ ما عندي من النقود فاضطررت للذهاب إلى حرم الإمام أمير المؤمنيـن (عليه السلام) وقلت له: سيّدي أنت تعلّم أنّي جئت لأتعلّم علومكم ثمّ لأعود الى عشيرتي في هرسين فأعلّمهم ما تعلّمت هنا . والآن لا أستطيع البقاء هنا لأنّه نفد كلّ ما عندي . ثمّ ودّعتُ الإمام وخرجتُ من الحرم قاصداً الرجوع إلى بلدي .
وأنا فـي طريقي نحو المدرسة إذ جاءني أعرابي لا أعـرفه ؛ سلّم عليّ وأعطاني مظروفاً بدون أن تكون بيننا أيّة سابقة أو لاحقة ، ولما رجعت إلى المدرسة رأيت المظروف مملوءاً بالنقود فعزمت على البقاء، وقرّرت أن أقتصد في حياتي ليكفيني هذا المبلغ . ذهبت إلـى الحرم مسروراً ، وحين العودة رأيتُ الأعرابي نفسه يقدّم لي مظروفاً آخراً ، وتكرّر الأمـر ثلاث مـرّات هكـذا ، ثمّ إنّ نجل السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) السيّد حسن ـ الذي استشهد على أيدي بعض الأشرار ـ قال لي إنّ والدي يريدك ، فأسرعتُ إلى السيّد الإصفهاني فعاتبني لأنّي لم أمرّ عليه ولم أخبره بحالي ثمّ عيّن لي راتباً شهرياً كان يكفيني طيلة حياتي .
هموسه